بلال الطيب
بلال الطيب
يا حب حبي زراعة (رحلة أيوب وعثمان أبو ماهر)
الساعة 11:42 صباحاً

صنع لنا الفنان الكبير أيوب طارش بفنه العذب روائع خالدة لا تُمل، صاغ كلماتها عدد من أشهر شعراء اليمن، كان الشاعر عثمان أبو ماهر أحدهم، وما ميز الأخير عن أقرانه تخصصه في أغاني الزراعة، من لحظات البذر حتى موعد الحصاد، ومن عشر أغانٍ كتبها لفنانا المحبوب، كانت سبع منها مُتخصصة بهذا الجانب، صورا من خلالها الأرض اليمنية أبدع تصوير، وأشعلا همم الفلاحيين للبذل والعطاء.
وتكررت فيها الدعوات الحاثة على التعاون: «هيا اغرسوا أرض حمير»، و«يا فتى يا بتول، قمْ احرثْ وقول، مات عهد الخمول»، و«بالتعاون نسود، فوق هام الوجود»، و«ألا تعاونوا يا جماعة، تعاونوا بالزراعة، حب التراب به نِفاعة»، وقد جاء وصف الدكتور عبدالعزيز المقالح لتلك الروائع بأنَّها شعبية اللهجة، شعبية اللحن، في مناجاة الفلاح، وفي الدعوة إلى الحنان بالأرض، والإخلاص للتراب الذي يعطينا القوة والحياة.
وهي – أي تلك الأغاني – بمُجملها روائع مطولة، وبأكثر من لحن أيوبي أو تراثي مُجدد، حصيلة بعض ما تم جمعه أثناء رحلة الفنان أيوب والشاعر أبو ماهر الشهيرة إلى عددٍ من المناطق اليمنية في أواخر سبعينيات القرن الفائت، وقد اختزل مطلع أغنية (لحن الحقول) كل المشهد:
شنِّ المطر يا سحابة فوق خضر الحقول
قولي لمارب متى سدّه يضم السيول
وآب يهدي لأرض الجنتين السبول
والبيض تقطف زهور الورد بين الطلول
والأكثر أهمية أنَّ تلك الأعمال الخالدة وثقت وأرشفت لفترة انتعاش عاشته اليمن يومًا ما، وفي عهد الرئيس إبراهيم الحمدي تحديدًا، تمثل ببروز مناشط التعاونيات، ومواسم التشجير، وقد تجسد ذلك التوثيق بصورة أكثر شمولًا في أغنية (وا زخم) التهامية، قصة ومعنى، وقيل أنَّها – أي الأغنية – كتبت ولحنت وغنت في يوم واحد، وذلك أثناء رحلة الفنان أيوب طارش والشاعر عثمان أبو ماهر من مدينة إب إلى مدينة تعز، تنفيذًا لطلب السلطات التي طلبت منهما الحضور والمشاركة في حفل تدشين موسم التشجير، وهو ما كان.
ومما جاء في تلك الأغنية ذات اللحن الأيوبي المميز:
وا صاحب ام كف مَسْمَر
حان غرس ام شجر
مُدَّ أم يدين وُءجُهُدْ
أدعيك مَحَّد أمَرْ
غرِّس ونا بام عرق
شسقي عروق ام شجر
كفي بكفك وتي
ام أشجار طاب ام سمر
ويتكرر التوثيق في أغنية (نشوة العمار):
ما احسن شجيرات التعاون
في قرانا والمدن
يا زهر ارقص.. يا مطر شن
لو يزيدوا غرس بن
ما أنْ يبتسم بارق الصيف، حتى يُسارع الفلاحون إلى مزارعهم، يحرثون التراب، ويبذرون البذور، وهم يرددون مهايد بديعة تزيدهم حيويةً ونشاطًا، و«يا الله صباح الرضا بالباكري»، ويحلوا مع تلك المناشط ترديد هذا النداء من أغنية (معينة الزراع):
ألا مُعين.. ألا يا الله يا رازق الطير
ألا معين.. ألا ترزق تخارج من النير
ألا معين.. ألا ما في المقايل لنا خير
ألا معين.. ألا ولا السؤال من يد الغير
وما أنْ تبدأ البذور – الذرة مثلًا – بالنمو، حتى تبدأ لحظات اهتمام المزارعين بها، بالتفريق بينها، وقلع الضعيف منها (الفقح) وانعاش التربة حولها (الكحيف)، وإزالة النباتات الضارة، وعمل مساحة بين التلم الأول والثاني (الأكفال)، على وقع مهاجل خاصة، و«بليبل وأبو البلابل، وبليبل قيم معي الزرع، وبليبل خل المقايل»، ومهايد يحلو فيها التمني باستمرار هطول الأمطار:
يا سحاب اسكبي
واروي ترابي وحبي
يا ملاح اطربي
زرع الهوى وسط قلبي
تلبس الأرض حلتها الخضراء البديعة، ويزداد اهتمام المزارعين بمزارعهم، يتفننون بعمل الحفر الصغيرة لحفظ الماء (الحجين)، وإزالة الأغصان الزائدة، و«بعد المطارة هجس قلبي يقول،علَّان وآراعية بعد السيول»، وما أنْ يحل شهر آب (أغسطس)، «حان وقت الصراب يا محاجين آب، آه ما احلى السبول»، حتى تبدأ المحاجين تتدلى، مُبشرة بقرب موعد الحصاد، (الصِراب) كما هي تسميتها الدارجة، والتي لأجلها كتب الشاعر أبو ماهر رائعته (هيامة الصُّراب)، وطعمها بكلمات تراثية من منطقة القبيطة، وغناها أيوب على وقع لحنين تراثيين خاصين بتلك اللحظة الفارقة.
حان الصِّراب دامه .. ألا وهيامه
يا اخوان مِعلامُه .. ألا وهيامه
مدوا الشريم اليوم .. ألا وهيامه
نَصرُب من اتلامه .. ألا وهيامه
للمرأة في الريف حضور لافت، فهي المشاركة الفاعلة في كل التفاصيل السابقة، وهي الحبيبة التي لا يحلو للرجل أنْ يمارس نشاطه إلا وهو يتغزل بها، وهو ما قام به أيضاً الشاعر أبو ماهر، حيث قال:
وكم مليح أحوم .. ألا وهيامه
يَصرُب ويتهمهم .. ألا وهيامه
والشمس في خده .. ألا وهيامه
تشعل عُروق الدم .. ألا وهيامه
وبمعنى أكثر هيامًا:
قلبي فيك هايم
يا دفئي وظلالي
يا ذية المنادم
يا ساكن خيالي
وأتت أغنية (شبابة الساقية) لتوضح حلاوة ذلك اللقاء أكثر:
شبابة الساقية في ظل وادي بنا
هناك أعطى التراب الحب خلي ونا
والبن والزرع والدردوش قد ضمنا
وأصبح الحب في دنيا المحبة لنا
وبمعاني أكثر قربًا: «معك.. معك.. شلني الوادي شسقي معك، شلملم الماء شسقي الزرع شروي ظماك»، و«يا مُلثم مهاب، بين الشجر حبنا طاب»، و«هبت رياح المواسم، ما احلاك ما احلى المباسم»، و«ذاق طعم الحب، من خمرة أوجانه».
وبلسان المرأة المعذبة الحزينة على فراق حبيبها، حضرت حسرة الغياب:
ألا معين.. ألا يا ذي الطيور بشريني
ألا معين.. ألا عمن هجر خبريني
ألا معين.. ألا لمه لمكَّه نسيني
ألا معين.. ألا هجره طوى لي سنيني
لا يكتمل حب المرأة إلا بحب الوطن، وأيوب طارش – فنان الأرض والإنسان – غنى للحبيبة والوطن، وحتى أغانيه الزراعية من كلمات الشاعر عثمان أبو ماهر وغيرها مُفعمة بالوصل، و«يا حب حبي زراعة»، وبذلك الامتزاج الفريد، بوصفها – أي الأرض – مجال النماء والعطاء، وأصل الاستمرارية والبقاء.
حضرت في تلك الروائع اليمن، كل اليمن، و«اليمن واحدي بحرًا وبر»، بجميع مفاتنها، بتلالها الباسقة، وأوديتها المُنخفضة، وأشجارها النامية، وأعشابها المُتمايلة، وأزهارها العطرة، وجداولها المُترنمة، وأطيارها المُغردة، وجاء في أغنية (نشوة العمار) ما يؤكد الوفاء والحب لتلك البلدة الطيبة:
حب الوطن كالصوم واجب
قبلوا جنات إب
جنات بعدان المدارب
والمحاجين في عَلِب
كم يا حمام، كم يا جوالب
يا فؤادي كم تحب
وجاء في أغنية (شبابة الساقية) ما يوضح ذلك المشهد بصورة أشمل:
أرضي أنا يا ابتسام الحب في كل جيل
يا أرض نشوان يا تاريخ شعبي الأصيل
تحية الحب تهديها تلال الدليل
وبُن وادي بني حماد عذب الجنا
ويأتي النقد البناء:
واللي نسى أرضه .. ألا وهيامه
والله أنا ما اشاه .. ألا وهيامه
حول اليمنيون على مدى التاريخ الوعر إلى حدائق ومروج، وروضوها بأزاميل الإرادة والصبر، وعلى وقع تلك الأغاني يحلوا استحضار ذلك الماضي الجميل؛ لخلق واقع أجمل:
يا بلاد السدود
بالتعاون نسود
فوق هام الوجود
وانحناء الورود
حول حضن البرود
خالدًا لا يزول
حضرت في أغاني أيوب كثير من أسماء المناطق اليمنية، من مأرب الأمجاد، إلى عيبان الصمود، ومن الأخير أبصرنا ردفان يحلف ما يعود الشعب شعبين، ولا نقبل حدود. زرعنا الشجر مع أهل لاعة، وجنينا البن في وادي بني حماد، ومدينا الأيادي جماعة، من الجنَد لا جُماعة.
ومن وادي العدين الاخضر الذي بُنه أزهر، تجددت الرحلة، وصولاً إلى تلال الدليل التي أهدتنا تحية الحب الأولى، شمينا الذرة في لواء إب، وركعنا مع الأحبة فوق جبل بعدان، ومنها شلنا شلال وادي بنا صوب أبين، اغتسلنا من مائه الغزير الرقراق، ورقصنا على انغام شبابة الساقية، حيث التراب هناك لا يعطي غير الحب، وقالوا – كما جاء في أغنية (البالة) – عدن شلت نفر.
شلال وادي بنا شل العقول
وشل لا ابين زغاريد الغيول
يا نشوة الرعيان يا شوق البتول
لعيل علان العوالي والسهول
ويتعاظم الانتماء للوطن الكبير بمقطع آخر:
سلام يا كل ذرة رمل أرضي سلام
يا جيل أيلول من صعدة لحتى شبام
من اللحية ومن مارب ووادي سهام
يضم في حب هذي الأرض أجيالنا
سبق أن أشرت في مقدمة هذه المادة إلى قيام الفنان أيوب طارش والشاعر عثمان أبو ماهر بجولة استطلاعية في عدد من المناطق اليمنية لغرض جمع التراث الزراعي 1978م، وهي المهمة التي اتت بتكليف من قبل (الاتحاد العام للتعاونيات)، وبتشجيع من عبدالحفيظ بهران أحد مسؤولي ذلك الاتحاد، بالإضافة لدعم الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني رئيس مجلس الوزراء حينها.
وحسب حديث صحفي لأيوب طارش مع ملحق (الجمهورية الثقافية) 1997م، أجراه الأستاذ سمير رشاد اليوسفي، أنَّ عملية الجمع انتهت بالنسبة له بتسليم ما لديه من موروث للشاعر عثمان أبو ماهر، مؤكدًا ثقته به، وبأنَّه سيظهرها بطريقته الخاصة، إلا أنَّ ملك الموت – للأسف الشديد – لم يمهل الأخير حتى يخرج كل ما في جعبته، وأضاف أيوب مُتحسرًا بلسانه وبلسان رفيق رحلته: «كلفونا بالعمل.. وبعد جمعه لم يطلبه أحد منا»!
وهكذا، وكي لا يذهب ذلك الجهد التوثيقي سُدى، نطالب الجهات الرسمية بالتواصل مع ورثة الشاعر عثمان أبو ماهر، والعمل من أجل إخراج ذلك الموروث للوجود، تكريمًا للفقيد في قبره، وتخليدًا لجهده ورفيقه (الفنان أيوب)، وتحقيقًا للعهد الذي قطعه الفنان والشاعر على أنفسهما ذات أغنية، باسمهما وباسم كل اليمنيين:
شواصل السير يا تاريخ سجل مسير
واكتب على صفحة الأيام حرف المصير
واشهد مع الكون فردوس الأماني الخضير
هذي بلادي وانا فلاحها والبتول
– الصورة نادرة تجمع أيوب طارش وعثمان أبو ماهر أثناء جمع التراث 1979.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
الأكثر قراءة
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر