بلال الطيب
بلال الطيب
الحديدة تحت مرمى النيران (1)
الساعة 05:43 صباحاً

لم تكن الثلاث السنوات الأولى من حكم الإمام يحيى حميد الدين - في دولته المُتوكلية الجديدة - سهلة عليه؛ بل كانت حافلة بالأحداث الجسام، حروبٌ شعواء عمت معظم أرض سام، وكان أقساها وأطولها تلك التي حدثت في مُرتفعات اليمن الغربية وبعض المناطق التهامية، والذين كان أبطالها مسنودين من قبل أمير صبيا محمد بن علي الإدريسي، خصم الإمامة الزيدية العنيد، والمدعوم أصلًا من قبل الإنجليز. 

قبل الغوص في تفاصيل تلك الحروب، وجب التذكير أنَّ الإدريسي والإمام يحيى كانا قبل عشرة أعوام مُتحالفين، وذلك أثناء صراعهما المَرير مع الدولة العثمانية، وهو التحالف الذي سعى إليه الأخير، واستمر قرابة العام، وتجسد بمُحاصرة الأول لأبها، ومحاصرة الآخر لصنعاء، وانتهى بعد كسر الحصارين، وعقد صلح دعان ذائع الصيت 8 أكتوبر 1911م.
     
وعن طبيعة ذلك التحالف وانفصام عُراه قال الإدريسي مُخاطبًا أمين الريحاني: «عقدنا مُحالفة لمُحاربة الأتراك وطردهم من اليمن، ولما جاءوا يمرون من بلادنا ليضربوه من جهة الشمال أوقفناهم، وقلنا لهم: كيف نقبل وبيننا وبينه عهد الله، وصل الأتراك بعدئذ إلى صنعاء، فهموا بضربنا من وراء، من الجبال، فلم يمنعهم ابن حميد حليفنا، صنو عهدنا، كأنَّ العهد عنده قصاصة ورق».
     
وكان الإمام يحيى قد قام بعد توقيعه صلح دعان بمُراسلة محمد الإدريسي، داعيًا إياه للدخول - مثله - في بوتقة مُصالحة العثمانيين، إلا أنَّ حاكم صبيا استمر في حروبه التوسعية، وحقق بدعم من الإيطاليين انتصارات مُتسارعة، وسيطر بمُساندة أسطولهم البحري على جيزان، ثم أبو عريش، ثم رازح، ثم خولان الشام إبريل 1912م، ولم يستمر مكوثه في المنطقتين الأخيرتين - كما أفاد المُؤرخ الواسعي - طويلًا، فقد استطاع عامل صعدة محمد بن الهادي طرد قواته، بعد أن غنم منها غنائم كثيرة.
     
وما يجدر ذكره أنَّ اتصالات الإيطاليين مع محمد الإدريسي كانت قد بدأت عندما كان الأخير طالبًا في القاهرة 1905م، وما أنْ عاد في العام التالي إلى صبيا مُمهدًا لتأسيس إمارته، حتى مَدته بالأموال، وكللت جهودها أواخر عام 1911م بالتحالف معه، وذلك بعد ثلاثة أعوام من توليه الحكم، وبالتزامن مع بدء الحرب الإيطالية العثمانية في طرابلس الغرب (ليبيا) التي اشتعلت قبل 15 يومًا من توقيع صلح دعان السابق ذكره، وكانت سببًا رئيسيًا في إبرامه، وهي - أي تلك الحرب - امتدت رحاها إلى سواحل اليمن الغربية، وتعرضت بسببها المدن الساحلية للقصف والحصار.

تفرَّد جدي الشيخ أحمد إبراهيم الطيب في كتابه (عبرة لمن يعتبر) بنقل جانب من تفاصيل تلك المُواجهات البحرية، وقال أنَّه وفي ليلة عيد الأضحى المبارك 1329هـ (29 نوفمبر 1911م) تعرضت مدينة المخا لقصف مدفعي من قبل السفن الحربية الإيطالية المُرابطة في البحر الأحمر، وأنَّ القصف طال أيضًا منطقة الخوخة، ثم باب المندب، وأنَّ الأخيرة وقلعتها الحصينة كانت الأكثر صمودًا، استمر قصفها لأقل من ثلاثة أشهر، وذلك بالتزامن مع التوغل الإدريسي في بلاد رازح وخولان الشام السابق ذكره، فيما شاهد سكان أعالي جبل صبر من قُراهم المُعلقة - ومن ضمنهم المُؤرخ - لوامع ذلك القصف.

كما تعرضت مدينة الحديدة لقصف مدفعي هو الأعنف، وذلك بدءًا من يوم 31 أغسطس 1912م، والذي وافق بداية العشر الأواخر من رمضان 1330هـ، وعن ذلك قال ذات المُؤرخ: «ضربت المدافع على الحديدة حتى أخربوها، وأخبرني من أثق به أنَّه ضرب عليها في كل يوم ثلاثين جُله، ثمن كل جله خمسمائة ليرة ذهب، حتى خرج أهلها إلى مناخة، وإلى التحيتا، وبيت الفقيه وما ولاها».
 
ما أنْ انتهت تلك الحرب بتوقيع صلح اوشي 15 أكتوبر 1912م، حتى خفت الدعم الإيطالي للإدريسي، إلا أنَّه استطاع من خلال الأسلحة التي حصل عليها، وتكاثر أنصاره؛ أنْ يسيطر على حرض، ثم ميدي، وأن يتوغل - كما أفاد المُؤرخ أحمد إبراهيم - في بلاد صعدة 1914م، إلا أنَّ مكوث قواته في تلك الناحية لم يدم طويلًا، غادرتها بعد مُوجهات شرسة قتل فيها عدد من العساكر العثمانيين.

ومما تفرَّد به المُؤرخ أحمد إبراهيم أيضًا حديثه عن توغل إدريسي آخر، وصلت فيه قوات الأخير إلى أجزاء من بلاد حاشد إبريل 1914م؛ لتتوجه بفعل ذلك قوات عثمانية إلى شهارة معقل الإمام يحيى لمُساندته في حفظ تلك المدينة الحصينة، وعن ذلك قال ذات المُؤرخ: «تكاثرت جموع الإدريسي، ودخلت نواحي المشرق، وأطاعته حاشد وكثير من نواحيها، وتوجه بعض عساكر السلطان مع إمام المشرق لحفظ شهارة..».

لم يكن مُناصرو محمد الإدريسي من مُعتنقي المذهب الشافعي فقط، فسبق أنْ استغل غضب بعض مشايخ حاشد كالشيخ ناصر بن مبخوت الأحمر من الإمام يحيى، وذلك بعد توقيع الأخير لصلح دعان، واستقطبهم إلى صفه. كانوا يسمونه بـ (إمام الذهب)، ويسمون الآخر بـ (إمام المذهب)، ومع احتدام المُواجهات بين الجانبين، كانوا يلهجون إلى الله بهذا الدعاء: «اللهم انصر الإمام يحيى نُص، وانصر الإدريسي نُص»؛ كي يستمر تكسبهم من تلك الحرب!   

مع نشوب الحرب العالمية الأولى ارتمى محمد الإدريسي في أحضان الإنجليز، وبمعنى أصح ارتمى قبل ذلك لأنَّ هناك من يتحدث عن حصوله على دعم من قبلهم قبل نشوب تلك الحرب، عقد معهم مُعاهدة صداقة 30 إبريل 1915م، وأصبح بذلك من أوائل حُكام شبه الجزيرة العربية الذين أعلنوا - في تلك الحرب - انضمامهم للإنجليز، تلاقت مصالحه مع مصالحهم، وكان كلاهما يخشيان من أنْ يرث الإمام يحيى العثمانيين، فيما كان الأخير يُهيئ نفسه - بالفعل - لذلك، ويُؤكد أحقيته في حكم تهامة؛ الأمر الذي فاقم الصراع بينه وبين الأدارسة أكثر فأكثر.
     
استراحة مُحارب لا أكثر، هكذا كانت الحرب العالمية الأولى بالنسبة للإمام يحيى، وما أنْ بدأت الدولة العثمانية تترنح حتى سارع بإرسال مندوب من قبله إلى عدن للتفاوض مع الإنجليز 1917م، خاصة وأنَّ الأخيرين كانوا قد شددوا قبضتهم على السواحل اليمنية، ورفعوا من وتيرة مُحاصرتهم للقوات العثمانية، وهو الحصار الذي كانت تبعاته على ذات الإمام وأنصاره وخيمة، في حين ظلت الموانئ التابعة للإدريسي مفتوحة.
     
وصل مندوب الإمام يحيى إلى عدن طارحًا عدة مطالب، وكان على رأسها الاعتراف بخضوع اليمن - كل اليمن - لسلطات الإمام، وأنْ تُعاد للأخير جميع الموانئ البحرية كونها من مُمتلكات أسلافه! وطرد الإدريسي من عسير والجزيرة العربية، وأنْ يتم اتصال بريطانيا مع الشعب اليمني من خلاله، وأنْ تقوم بريطانيا بتزويده بالأسلحة والذخائر، وقد اعتذرت الأخيرة عن قبول تلك المطالب كونها مُرتبطة باتفاق معاهدة مع الإدريسي.
     
استمر دعم الإنجليز لمحمد الإدريسي، وقاموا بضرب مدينة الحديدة بالقنابل والمدفعية تمهيدًا لاجتياحهما، وذلك بعد أنْ رفضت الحامية التركية التسليم، وعن ذلك قال المُؤرخ الواسعي: «هجم الإنكليز على الحديدة بإحدى عشر أسطولًا على حين غفلة بعد طلوع الفجر، من غير إعلان ولا استعداد، وضربوها بالمدافع، وخربوها، وذهبت أمول كثيرة، وفر أهلها إلى التهايم في حالة يؤسف لها، ولم يأخذوا معهم شيئًا.. ثم احتل الإنكليز الحديدة، وتراجع الناس، وصار أكثر الناس يسكنون الخرائب..».

وهكذا تأتى للإنجليز السيطرة على مدينة الحديدة 14 ديسمبر 1918م، وذلك بعد أنْ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وبعد دخول الإمام يحيى صنعاء بـ 26 يومًا، وحين كتب الأخير إلى المعتمد الإنجليزي في عدن يحتج على ذلك؛ جاءه الرد أنَّهم إنما دخلوا الحديدة ليحافظوا على النظام فيها، وأنَّهم عازمون على تسليمها له بعد أنْ يستتب الأمن!

          .. يتبع

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
الأكثر قراءة
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر