د. يحصب الربيع
د. يحصب الربيع
المقاومة الصامتة ضد سلطات القمع في صنعاء
الساعة 11:04 مساءاً

مع اشتداد المعارك على الجمهورية، غطى على المشهد أنغام السلاح المقاوم، الذي يسطر الأمجاد في معركة بطولية لتخليد مشهد ملحمي ستذكره الأجيال كثيراً، حتى رأى البعض بإتهام من يعيشون ضمن المناطق التي تسيطر عليها المليشيات الحوثية بالتواطئ مع أعداء الجمهورية لاسقاطها، وهكا ليس صحيحاً، فالمليشيات الحوثية تلاقي مقاومة عنيفة من نوع آخر، جبهتها في عمق مناطق سيطرتها، نستطيع أن نسميها (المقاومة الصامتة)، وذلك في مواجهة القهر والكبت الذي تمطره هذه المليشيات فوق رأس المواطن الذي يعتبر حربه معها حرباً وجودية. 

و المقاومة الصامتة هي نوع من المقاومة المستعصية على خلق الخبر المثير لاستقطاب الوسائل الاعلامية، فهي مقاومة لا تستهوي خلق الصخب بل تتسرب في الظل لخلق وعي مقاوم لا لصنع حدث مضاد، و تراهن على تراكمات الأحداث البسيطة في الحياة العادية و التي لا يأبه لها أحياناً، لتستغل ذلك في صناعة الوعي الذي يتطلب نفساً طويل و بعد نظر في إطار صناعات الوعي المخططة، لكن صناعة الوعي في التحركات الشعبية قد تستمر و تطول جداً، و قد تنطوي خطاها و تختصر فيها الكثير من الأمور لتضع الاستبداد والقهر أمام النهايات بصورة مفاجئة. 

و تكون المقاومة صامتة نتيجة لجرد العقل الجمعي لمسألة توازن القوى، فشعب صنعاء يرى أن ميزان القوى يرجح لصالح الحوثيين في اللحظة الراهنة، فيضطر العقل الجمعي إلى العمل في صمت، و اختيار المناطق المسكوت عنها او الأمور التي لم يتجرء الحوثيون بعد الاعتراض عنها علناً، ويستغلها ليحدث صخباً و ضجيجاً غير منظم، يرسل به رسائل عده منها ما يتوجه للرافضين و منها ما يتوجه للمرفوضين مفادها :" نحن هنا". 

المقاومة الصامتة هي نوع من المقاومة العابرة للانتماءات، لأنها نوع من الانكفاء على الذات للحفاظ على الهوية أمام خصم يمارس العنف و أدوات القهر لقسر الناس قسراً على فكره و معتقداته، فالمقاومة الصامتة توفر مشاعر جامعة تساهم في رأب الصدع بين كل الاتجاهات و التوجهات حول اعتبارات جامعة و ثوابت متفق عليها، تجعل من قاعدة المقاومة تتسع يوماً بعد يوم، لأنه في كل يوم يفتح جرح، و معه تنبت نبتات القهر التي تجعلنا نبحث عن أشباهنا للاستشعار بوجود الدعم و التقوي ببعض، ولذلك نرى نوع من الإتحاد بين كافة الانتماءات الحزبية التي جمعها قهر الحوثي على صعيد واحد. 

وكلنا نعلم أن الشعور بالانتماء هو أكبر التحديات التي يواجهها اليمني اليوم، فهو يرى حربه حرب هوية، فلذلك ينطوي المجتمع اليمني على نفسه ليشعر أفراده بالانتماء الى هذا المجتمع الرافض، ويقابل سلوك الكبت الذي تمارسه السلطات الحوثية بشعور يمنيته و بمشاعر الدعم و المشتركات التي تربطه مع أبناء مجتمعه، فتتوفر له نوع من الحماية الداخلية التي تجعله أقوى و أصلب أمام ضربات سياط القهر التي تستهدف تغييره، ولذلك فإن الفرد إذا تاكد من وجود من يشاركه موقفه و مشاعره واتجاهاته في ظل سلطة القهر فإن ذلك يوفر له المزيد من القوة الداخلية، و يزيد من عزمه وقوتة واصراره على مواصلة رفضه ومقاومته. 

وقد تعلمنا من الشواهد التاريخية أنه عندما يأتي مستبد و يريد قمع فكرة ما، أو يريد قسر الناس قسراً على شيء ما، فإن الفكرة تنكمش للمحافظة على نفسها و لكنها لا تموت، ولا تلبث أن تعود بصورة أقوى، و لا أدل على هذا الأمر من الحركة الحوثية نفسها رغم فكرها الكهنوتي الضال..
و الشعوب قد تتعايش مع سلطات القمع و تطبع مع الاستبداد إذا لم تشعر بتهديد هويتها، لكنها ان شعرت بتهديد الهوية فإنها تلجأ إلى لملمة شتاتها بالمقاومة الصامتة التلقائية، المقاومة الي تحركها النزعات الانسانية المحتاجة إلى روح الانتماء، فتبدء مقاومتها مستغلة الاحداث المتتالية و تجييرها في إطار صناعة الوعي الثوري بانتظار اللحظة الحاسمة المناسبة. 

و لمواجهة هذه المقاومة الصامتة و التي تنعكس بمزيد من القوة الداخلية لدى أبناء الشعب الرافضين لها، و تساهم في تحصينهم بالاستقرار النفسي الذي يشعرهم بالمزيد من الدعم، تلجأ السلطات الحوثية إلى الدخول و التوغل أكثر في هذه المعركة لإخراج المواطن من حالة الاستقرار النفسي تلك، و استراتيجيتها في ذلك هي الفقر، فالفقر يجعل القهر أعمق و يرتبط بحياة المواطن مما قد يوفر بيئة للاضطراب النفسي غير آبهة للوضع المحيط ومشغولة كلياً بلقمة العيش، ولكن استراتيجية الافقار تجلب نتائج عكسية دائماً، لأنها تنمي مشاعر العنف بصورة أقوى و لن تسلم السلطات الحوثية منه في نهاية المطاف.. 

وقد رأينا اشكالاً كثيرة لهذه المقاومة، فهناك من يستدعي التاريخ اليمني لاستحضار النموذج القيادي اليمني والاهتمام بالشخصيات و الدول اليمنية القديمة، والمواطن بذلك يستدعي الأنا العليا التي ستجعله في يوم ما يستشعر داخله بتفوقه الذي سيرتكز عليها تحركه على الأرض.. كما أننا رأينا الأعراس الجمهورية التي تهتم بخلفيات الطير الجمهوري و الاهتمام بافتتاح حفلاتها بالسلام الجمهوري و كل تلك دلالات ترسل رسائل جمهورية مبطنة تعمق الوعي بالجمهورية و ترسل رسالة باستحالة التماهي.

كما أننا نرى تلك المقاومة للفكر الحوثي بشكل واضح و صريح، عندما يتم تغيير خطباء المساجد و جلب خطيب من الجماعة الحوثية، فإن الناس تعزف عن صلاة الجمعة في المسجد و البحث عن خطيب آخر، في مشهد تتجلى فيه بوضوح روح المقاومة الصامتة في أبهى صورها..
كما أن ما رأيناه من الاهتمام بالعيد التاسع و الخمسين لثورة السادس و العشرين من سبتمبر، والاحتفاء الشعبي و التلقائي بها و خصوصا في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين لهو تجلي من تجليات المقاومة الصامتة، والتي تعمق الوعي بهذه الثورة المباركة التي كانت نقطة فاصلة في سلسلة الصراع بين اليمنيين والخرافة الهاشمية. 

و في الأخير، لابد أن يقف اليمني أمام بقايا الخرافة التي تتسلح بالدين بأي شكل من الأشكال، و يجب أن لا نهمل اي عمل بسيط نؤكد فيه جمهوريتنا و نرسخ فيه وعي ذواتنا و اطفالنا بقدسيتها.. و نعم أن هناك خطر قد يترصد بالمقاومة الصامته عندما يطول بها الأمر، لكن ذلك لا يكون في استمرار سلطات القهر و الكبت، لأن سلطات القهر ستدخل في حرب وجودية هي كذلك لترسيخ هويتها وطمس هوية الشعب، كما حاولوا عبر الأزمان الماضية عندما جاءوا لنا بالهوية الدينية الخرافية التي تمجد السلالة و تقر الحق الالهي لهم في الحكم، وذلك على حساب الهوية اليمنية، فلم يهتموا باثار و تراث الدول اليمنية القديمة و لا بمخطوطات اليمنيين، و قد لا يتورع أحدهم عندما يتم ذكر سبأ و حمير أن يشتت الاذهان عنهم بأنهم كفار لا يجب الافتخار بهم، في مشهد فج لاستجلاب الهوية السلالية على حساب الهوية اليمنية، لكن الشعب اليمني يرجع دوماً إلى هويته لأنها نزعة إنسانية طبيعية..

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
الأكثر قراءة
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر