سام الغباري
سام الغباري
أنا.. وفيونا !!
الساعة 09:40 مساءاً

أوقفت سيارة أجرة قاصدًا الذهاب إلى مقر السفارة البريطانية في الرياض، حملت أناقتي معي ورحلت، بذلة سوداء وربطة عنق داكنة، وقميص بلون الورد اخترته من القاهرة، وبداخل هذا النسيج المتباعد رجلٌ من اليمن يتسكع في شوارع عاصمة باردة هبطت في الصحراء كسفينة فضائية ضخمة.

صوت الريح يصفر من نافذة السيارة المهرولة في طريق الدائري بإتجاه حي السفارات. إنه أوان العصر، والحيّ يكاد يخلو من المارة، السيارات الفارهة تتزاحم بمخارجه، وأنا الوحيد القادم إلى موعد ما بعد الدوام !، أخرجت هاتفي، وتحدثت إلى المسؤولة الاعلامية والسياسية في السفارة وهي حضرمية لطيفة أُعلمها بوصولي، فكانت في انتظاري عند عتبة البوابة الحديدية الضخمة وقد طوّقت عنقي ببطاقة زائر، دلفنا إلى صالة صغيرة تتفرع منها سلالم قليلة تنفذ الى فناء واسع، جلسنا بالقرب من مسبح صغير، تحدثنا قليلًا، وجاءت شابة بيضاء مبتسمة، تنساب جدائل شعرها الأشقر بهدوء على كنزة سوداء صافية، وتخفي نصفها وجهها الصغير بنظارة شمسية كبيرة، فسألت مُستقبلتي : هل هذه نائبة السفير؟، فأومئت برأسها ونهضنا معًا لإستقبالها وتبادلنا عبارات المجاملة المعتادة، ثم عُدنا إلى جلوسنا.. أنا بين فتاتين وعلى الجانب الآخر إصطف عدد من العاملين في مقاعد أثيرة منهمكين بكتابة أشياءهم على اجهزة محمولة نظيفة ولامعة.

بدأت بالحديث عن سعادتها باللقاء - هكذا قالت لي المترجمة - وسألتني : ما الذي يحدث في اليمن ؟، قلت : سأكون دقيقًا في إجابتي،فعلى المجتمع الدولي أن يسمع شيئًا آخر قد لا يبدو مألوفًا لديهم، أومأت برأسها متحمسة والتقطت دفتر ملاحظاتها.. وبدأت تكتب ما قد يثير اهتمامها. حينها قلت كل شيء : 

قلت أن البريطانيين يجب أن يدركوا جيدًا أسس الصراع في اليمن - يبدو أنهم يعرفون ذلك - فما يحدث اليوم ليس إلا معركة كشفتها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الإجتماعي ضمن سلسلة لأكثر من عشرة آلاف معركة خاضها من يُسمّون الهاشميين في اليمن على مدى ألف عام رغبة في انتزاع الحُكم والثروة والسلطة والأرض لسُلالتهم من أقصى اليمن إلى أقصاه.

قالت : أنت تعني أن مايحدث ليس انقلاب جماعة مسلحة طامحة في السلطة ؟ 

أومأت برأسي متحمسًا وأضفت : لهذا الانقلاب جذر تاريخي، ولا يمكن فهم نواياه وأفعاله التدميرية بمعزل عن كل معارك الإمامة الهاشمية في اليمن، ومن اعتقد أن هذه الجماعة التي تصف نفسها ب "أنصار الله" مجرد مجموعة من "الثوار" الطارئين على المشهد السياسي والعسكري فهو مخطئ في تقديراته ومعرفته التي ستُنتج عنها سُبُلًا عرجاء لا تفضي إلى الحل. وتساءلت بمرارة : لو كانوا ثوارًا وطنيين لتنازلوا قليلًا لحل يجمع اليمنيين إلى كلمة سواء، ولما استماتوا كل هذا الوقت من أجل خرافة تمنحهم وهم الإصطفاء المزعوم.

تعجبت الديبلوماسية الشابة وأطلقت سؤالًا مفاجئا : أنت بهذا تنفي عنهم صفة اليمنية ؟ 

قلت : لو اعترفوا بيمنيتهم أصلًا لسقط عنهم أهم شرط من شروط نظريتهم الديناصورية التي تنص على وجوب انتساب مُدّعي الإمامة إلى الحسن أو الحسين سبطا رسول الله الكريم. ولأجل هذا الإنتساب تتوافر وظائف دائمة ومُقدّسة، وأنهم حتى هذه اللحظة ليسوا على استعداد للتخلي عن "هويتهم" المُدّرة للمال والأنصار، وفي سبيل تحقيق تلك الوظيفة نراهم يضرمون النار في كل شبر من اليمن ويحشون باطنها بملايين الألغام المتنوعة لإعاقة اليمنيين الثائرين من استعادة عاصمتهم المحتلة، وقد حسموا أمرهم بإعلان صريح يرفض أي عواء عرقي وعنصري تتكوم قطعانه في زوايا الأحياء والقرى مثيرة الرعب في نفوس اليمنيين العُزل الذين باتوا محاصرين في أدغال الهوية الهاشمية المناقضة للهوية الوطنية والحضارية لليمن المُقدّس.

قالت : وما الحل ؟

قلت : أن تستسلم الحوثية التي تمثل الذراع العسكري للهاشمية، وتنسحب ضمن اتفاق شامل يضمن تنفيذ العدالة الإنتقالية على كل المجرمين الذين ارتكبوا أعمالًا فردية بحق المواطنين العُزل، مالم فإن أي اتفاق لا يُقدّم حلولًا لهذه المعضلة "القانونية" قد يؤدي إلى نشوب معارك "ثأرية" بين الراغبين في الإنتقام وخصومهم.
..
انتظرت حتى أنهت المترجمة نقل حديثي إليها، وتنفست عميقًا ثم أردفت مستدركًا : لا أحد في اليمن يبحث عن اجتثاث عرقي للهاشمية، والمخاوف التي يشيعونها مجردة من الواقع لإلهاء المجتمع الدولي عن كارثة الإجتثاث العرقي للهوية الوطنية والدينية والتاريخية لليمنيين، ومحاولتهم الدؤوبة في تغيير ديمغرافي على الأنحاء الجغرافية في عواصم المُدن وتسميم عقول الطلاب الناشئين وتدمير أسس التعليم لإنتاج مجتمع مُضلّل يذهب إلى الموت دون أن يدري من يحارب، أو على ماذا يقاتل ؟. فمن يقتل من في هذه اللحظة ؟ 
..
أخذتني نشوة التوضيح، مستعيدًا جلستي المتحفزة وأنطلقت كالريح : إذا نالت الهاشمية من اليمن فإنها ستشكل تهديدًا مباشرًا لكل دول الغرب التي ستضرب رأسها مولولة على إرهاب مفاجئ يغزوها من الداخل !، وهنا توقفت للترجمة وقد أظهرت النائبة اهتمامًا وفضولًا لمعرفة مقاصدي، فعُدت إلى قعدتي المسترخية وشبكت أصابعي كرجل عميق وقلت : إن الحوثيين الذين يتسكعون في شوارع لندن ودول أوروبا وأميركا ليسوا سوى قنابل موقوتة كأولئك الارهابيون الذين ناصروا أسامة بن لادن في حروبه على السوفييت، ثم عادوا بصواريخهم وحروبهم على الغرب بلا استثناء، وفي ظل إرتباك متأخر أودى بأميركا إلى حروب دامية وعابرة للقارات بحثًا عن إرهاب مخبأ في جبال تورابورا المنيعة. إن كل حوثي يسكن في الغرب اليوم ويلقى دلالًا وآذانًا صاغية من السيناتورات والصحفيين ومنظمات المجتمع المدني، هو مخلوق يحمل عقيدة الخميني المتطرفة و متعصب لعنصريته الهاشمية التي ترى أن الغرب منظومة استكبارية شيطانية، وبضغطة زر من الخامنئي سيفاجأكم أولئك المخادعون وقد صاروا قنابل بشرية مدمرة !. رفعت اصبعي مُحذّرًا كمن يُلقي حكمة اليوم : يجب أن لا يطمئن المرء على حياة أطفاله وهو يُربي ذئبًا في منزله.
..
تحدثت معها بإسهاب عن الهوية اليمنية، وتيارها الوطني، وقد استرعى ذلك انتباهها الكامل، وقلت : أن الأقيال مؤمنون بقبول الآخر مهما كانت ديانته أو عقائده طالما وهويته الأولى هي اليمن، إنهم فتية لا يفتشون في العقائد والضمائر كما يفعل الهاشميون الذين مارسوا إرهابًا على بقايا اليهود والبهائيين وكل جنس مخالف لهم حتى في المذهب ولو كانوا مسلمين، إن الإرهاب الهاشمي شمولي النزعة وعنصري الهوى وعدائي إلى أبعد حد، وما لم يتم تحديد الهوية في اليمن فإن الصراع سيستمر لأنه نزاع بين هوية إنسانية تدعو بإسم اليمن وعرقية عنصرية يسيل شبقها على كل شيء وتنصر الإشتهاء وتحفز الرغبة، ليس في عائلة واحدة وحسب كما نعرف عن الأنظمة الملكية، بل يندرج شبق السلطة بتوزيع أغلب وظائف الحكومة على سُلالة يُقدّر تعدادها بمليون شخص، إنخرط غالبيتهم في قتال متعدد الأوجه على اليمنيين بإصرار يدفع نحو حرمانهم من الوظيفة والسلطة ويكتم عنهم الحياة المأمولة. إننا أمام مشهد ملحمي لشعب كامل يدافع عن نفسه من غارة مفاجئة انطلقت من شوارعهم وأحيائهم البسيطة مستفيدة من اختلال موازين السياسة وأربابها الحمقى.
..
ذهبنا إلى مجلس النواب ودوره في المستقبل، وضرورة اخراجه قانونًا يُجرم الولاية السياسية والدينية لأي فرد أو جماعة أو سُلالة، وأنه لا خيارات أخرى سوى الدولة للجميع أو لا دولة، ثم عُدنا إلى الحلول العامة، مُجيبًا عن أسئلة كمثل : هل بقي في الهاشميين رشيدٌ واحد يرشدهم إلى الحل ويدفعهم إلى السلام ؟، بحثت سريعًا عن إسم واحد فلم أجد، وقلت أن عليهم التقصي عن هاشمي غير ملوث بالموالاة أو الكلمة منه أو التحريض من عياله وأقاربه مع الإنقلاب العنصري. ولكي لا يبدو حديثي متشنجًا، استدركت قائلًا : أن ذلك صعب في ظل تشابك المواقف وتعقدها، ونأمل بروز أصوات هاشمية من الداخل تكبح جماح هذا التدافع الأعمى نحو الموت.
..
انتهى اللقاء.. وسألت مترجمتي في طريقنا إلى بوابة الخروج عن إسم النائبة : فقالت : فيونا، كانت "فيونا" تمشي أمامي بخفة فتاة لم تتزوج بعد.

*من صفحة الكاتب بفيسبوك.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
الأكثر قراءة
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر