محمد صلاح
محمد صلاح
الإمامة وأوهام حكم اليمن
الساعة 01:36 صباحاً

يوجد الكثير من اللبس حول الإمامة وسلطتها، ومدة حكمها في اليمن، وهو ناتج عن التعميمات التي أسهم عديد من الكتاب والسياسيين في ترسيخها، والتي تتمثل بأنها حكمت اليمن الف ومئتي عام، بينما استنطاق وقائع التاريخ تكذب الأوهام، فقد كان غالبية الأئمة طوال سبعمائة عام على سبيل المثال، محصورين في مناطق بعينها، واحيانا يمتد وحينا ينكمش، داخل حدود معينه، وفي بعض الأوقات كانوا أشبه ببعض الزعامات القبلية، وبعضها أقل من ذلك، لكن الاسهامات لكتّاب السيّر التي قام بها مؤرخو الزيدية اضفت الكثير من المبالغات حول دعوات الأئمة، ونفوذهم وسيطرتهم وأدوارهم.

ولعل في هذه الاطلالة العابرة ما يوضح جزء من ادوارها، وطبيعة السلطة في اليمن.

تاريخياً لم يعرف أن "الزيدية السياسية" أو "دولة الإمامة"، تمكنت من إسقاط دولة من الدول التي ظهرت، أو برزت في اليمن، متزامنة مع ظهورها أو متعاصرة معها، سواء كانت ذات مرجعية سنية، أو شيعية، أو مستقلة بلا مذهب سياسي، لكنها كانت في بعض الأوقات مهيئة لوراثة نفوذ بعض القوى المحلية، التي تختفي أو تسقط، واحيانا أخرى كانت تتمكن من الوثوب على الحكم كقوة تفوق غيرها من المنافسين، على مستوى اليمن بأكمله كما جرى مع الدولة القاسمية الأولى 1635م، أو على جزء منها كما جرى بعد خروج الاتراك وصعود الإمام يحيى حميد الدين 1918م.

فمثلاً دولة علي بن الفضل كان الحواليون زعماء الدولة اليعفرية، هم من قادوا تحالفاً اشتركت فيه عدد من القوى الموجودة على الساحة اليمنية بقيادة أسعد بن أبي يعفر، الذي استغل اغتيال الزعيم اليمني أبو الفتح الجدني للقضاء عليها وذلك مطلع القرن الرابع الهجري، ومثل ذلك ينطبق على اليعفريين الذين كانوا متواجدين في صنعاء وما حولها، وفي بلاد يريم، وكانت تمتد على مساحة كبيرة من الرقعة اليمنية، وتنكمش كما هو حال عدد من الدويلات التي عرفتها البلد، فإن الإمامة لم تكن لها اليد الفاعلة في غيابهم، وإن ظلت تشكل عامل قلق لليعفريين، وكان أكثر ما أضعفها هو الصراع داخل الاسرة اليعفرية، حيث تشتت ولاء قاداتها، وتشتت تحالفاتهم.

وفي التهايم حيث دولة بني زياد الذين كانت تربطهم علاقات وطيدة مع الخلافة العباسية، ثم تحولت إلى اسمية وشكلية، فإن نفوذ الزياديين اختفى من زبيد والسواحل على يد مواليهم، وعبيدهم من النجاحيين.

ومع تنامي دور النجاحيين الأحباش وبروزهم كقوة على الساحة اليمنية، وغياب زعامة يمنية جامعة منافسة أو معارضة، يلتف اليمنيون تحت لوائها، فضلاً عن وجود دولة، حيث كانت غالبية القوى المحلية تخوض صراعات فيما بينها على النفوذ، والسيطرة على المناطق، بينما الزيدية السياسية بعد تجرعها الهزائم والانكسارات المتوالية، على يد القوى المحلية، وبسبب الصراعات بين دعاة الإمامة، اضطرت الأخيرة مرغمة الدخول في عالم الغيبية والقول بالمهدوية، بعد مقتل الإمام الحسين بن القاسم العياني بالقرب من صنعاء في بداية القرن الخامس الهجري. 

في هذه الأوضاع القلقة، ظهر علي بن محمد الصليحي 439 هجرية، من جبل مسار في حراز، داعياً ومؤسساً لدولة يمنية تعتنق العقيدة الإسماعيلية التي خرجت من رحم التشيع، ورغم الصراع الذي دار بينها وبين دعاة الإمامة الزيدية إلا أن الدولة الصليحية كانت هي الغالبة، وإن ظل أدعياء الإمامة يشكلون عامل قلق بتمرداتهم المتواصلة، وكانت الصراعات بينهما سياسية على السلطة والحكم.

وقد ورث الياميون حلفاء الصليحيين السلطة في صنعاء وما حولها بعد وفاة الملكة الحرة السيدة بنت أحمد 532 هجرية، وورثها الزريعيون في عدن، وقد تغلب الياميون على الإمام أحمد بن سليمان الذي دعا للإمامة بعد وفاة الملكة، وفر الأخير من مواجهة الرعيني في التهائم، بعد أن استنجد به النجاحيون، وتحالفوا معه لقتال الرعيني الحميري، وكان سقوط النجاحيون في تهامة علي يد قواته عام 554هجرية.

حين غزا الأيوبيون اليمن (569هـ) وطووها تحت جناحهم لفترة تزيد عن نصف قرن من الزمن، جرى خلال ذلك صراع مرير بينهم وبين القوى اليمنية، المتواجدة على الساحة، وقد كانت إمكانات الأيوبيين تفوق ما لدى القوى المحلية، حيث تمكنوا من إسقاطها الواحدة بعد الأخرى، خصوصاً، مع عدم التنسيق بين القيادات والزعامات لتوحيد جبهتهم ضد الأيوبيين.

وكان نتيجة ذلك أن ضعفت القوى والزعامات اليمنية، بعد أن استنزفها قتال القوات الأيوبية، فسقطت صنعاء في يد طغتكين سنة 585هـ، وأعقبها سقوط بقية الحصون والمعاقل الحاتمية، التابعة للياميين من 'همدان'، وهم الذين كانوا على علاقة قوية بالصليحيين الإسماعيلية، بعد وقعات وسنوات من المقاومة لجنود الغز.

وبسبب غياب الزعامات المحلية برز الإمام عبد الله بن حمزة داعيا لنفسه بالإمامة عام 593هـ. وقد كان لضرب الكيانات الإسماعيلية في مدينة صنعاء من قِبل الأيوبيين، وفي أعالي اليمن، وخصوصا مغارب صنعاء، وهي المعروفة اليوم بمحافظة "حجة" وما جاورها، دور مؤثر في صعود الإمامة آنذاك، بحيث سهلت على الزيدية الاستيلاء على مواقع الإسماعيلية، بعد إزاحة المنافس الذي ظل يعيق دعاتها من تحقيق أهدافهم. فكان لغياب المذهب المنافس دور فاعل في انتشار المذهب الزيدي، وتفرده في الشمال الجبلي بعد تضعضع المذهب الإسماعيلي، وضعف القوى الاجتماعية.

لكن الأيوبيين لم يستمروا في اليمن، فغادروها سنة 626 هجرية، وكان الرسوليون هم من ورثوا السلطة، واستطاع عمر بن علي رسول، الذي أعلن نفسه ملكا وسلطانا على اليمن عقب خروج الأيوبيين، من توحيد اليمن تحت حكمه، بينما ظل الأئمة يشكلون عامل قلق وابتزاز لهذه الدولة، وما ينبغي الالتفات إليه هو أن وصول الأيوبيين إلى البلد هو ما عزز الفرصة لاستعادة الإمامة أنفاسها.
في عهد المظفر الرسولي (647 – 694 هجرية) خمدت الإمامة، وقد استطاع أن يمد حكمه حتى وصل إلى مكة.

وكذلك استقر الوضع لمن جاءوا بعده، ولولا الانشقاقات التي حدثت داخل البيت الرسولي الحاكم، واستياء الناس من تصرفات الجنود المماليك في بعض المناطق لما تمكنت الإمامة من العودة مجددا إلى مسرح الأحداث.
لعبت الخلافات والصراعات على السلطة داخل البيت الرسولي دوراً مؤثراً في بروز الإمامة مرة أخرى، فظهر على الساحة الإمام المهدي علي بن محمد - حوالي ٧٥٠ هـ - في أعالي اليمن، وقد ساعده -إلى جانب الصراع بين أمراء الرسوليين- على الحكم تذمر الناس من اختلال الأمن، وعبث جنود "الغز" ممن كان يستقدمهم الرسوليون، وممن تبقوا معهم منذ مجيء الحملة الأيوبية إلى اليمن في عدد من المناطق، حيث كانوا يتحكمون في حياة الناس وينهبون تجاراتهم، فبدأت قوافل الجمال المحملة بالبضائع والمؤن، تتأخر في "ذمار" لفترات تطول على الستة والسبعة الأشهر، مما اضطر أهالي صنعاء وغيرها إلى استدعاء المهدي ومبايعته، وقد امتد نفوذه في بعض الفترات إلى 'ذمار' و'رداع'.

وحين توارت سلطة الرسوليين، قام الطاهريون (858هـ) بأمر الدولة، وقضوا على كل التمردات، واستطاع عامر بن عبدالوهاب، الذي تولّى الحكم عام 894هـ، أن يوطّد سلطته على غالبية الرقعة اليمنية، ولم يعد للإمام شرف الدين، الذي دعا لنفسه بالإمامة، غير تواجد ضعيف لا يجرؤ على تجاوزه في قمة جبل 'ظفير حجة'، كما يقول القاضي الشماحي -رحمة الله عليه- ولولا غزو المماليك وتآمر الإمام شرف الدين معهم في القضاء على "بني طاهر" حينها لما تبقّى للإمامة أثر في أعالي البلاد، إذ كان سلطان الطاهريين ينوي استئصالها.

ففي عهد السلطان عامر بن عبد الوهاب، الذي بسط نفوذه على غالبية الرقعة اليمنية وأخضعها لحكمه، كان البرتغاليون يحومون حول سواحل اليمن، بهدف السيطرة عليها وخنق التجارة ومرور المراكب بين مصر والهند، وعندها استنجد السلطان الطاهري بالمماليك في مصر لمواجهة البرتغال، وما إن وصلوا إلى السواحل اليمنية حتى رفض التعاون معهم، فما كان منهم إلا احتلال اليمن، وقد استغل الإمام شرف الدين ذلك وعرض عليهم العون والمساعدة في القضاء على خصومهم وخصومه من "بني طاهر"، وما إن تحقق ما سعى له حتى أعلن الجهاد ورفع راية الاستقلال ضد المماليك، وفي تلك الفترة سقطت سلطة المماليك في مصر بعد القضاء عليهم من قِبل السلطان العثماني واستيلائه على مصر، فانكفأ المماليك في اليمن، وهذا شكل فرصة للإمام شرف الدين، فـ"استغل الفراغ السياسي الذي رافق الانكفاء المملوكي لكي يوسع سلطته حتى ميناء عدن، وكانت تلك هي المرة الأولى في تاريخ اليمن الذي استطاع إمام زيدي التربّع على هكذا مساحات شاسعة من الأرض"، كما يقول 'فرانسوا بلوكاكز' صاحب كتاب "اليمن في ظل الأئمة الزيديين".


لقد ظلت "الزيدية السياسية" تناضل سبعمائة عام من أجل أن تحكم اليمن- كما يقول مؤرخ اليمن عبد الله الشماحي - ومع أنها دخلت البلاد في وقت واحد ومتقارب مع الإسماعيلية، غير أن الأخيرة سبقتها إلى الحكم وانقاد اليمنيون للدولة "الصليحية"، رغم الغموض الذي يلف المذهب الإسماعيلي مقارنة مع الهادوية، لكن اليمنيين انحازوا للصليحيين، وفضلوا سياستهم، وقبلوا حكم امرأة تتربّع على كرسي السلطة، وهي الملكة السيدة الحرة بنت أحمد، على أن يتولى أحد من البطنين أمور الدولة، والسبب في ذلك أولا هو جذور الصليحي الهمدانية وأرومته اليمنية، وعدم اشتمال دعوته في الوصول إلى السلطة على مبدأ الاصطفاء والتفضيل الإلهي الذي تزعمه الهادوية، فقد كان التحجّر في الزعامة -كما قال علامة اليمن الشماحي-: "هو الذي جعل من اليعفريين وآل الدعام الأرحبيين، وآل الضحاك الحاشديين، وآل أبي الفتوح الخولانيين، وأمثالهم من أهل الاجتهاد جعل منهم أضداداً للدعوة الزيدية، كما جعل هذا التحجّر كل القوى اليمنية ضد المذهب الزيدي كآل حاتم، وآل الغشم، والخطاب وآل زريع، والصليحيين والياميين والهمدانيين، وغيرهم ممن مالوا عن الزيدية إلى الإسماعيلية. إن هذا التحجر هو الذي وقف حجر عثرة في طريق انتشار المذهب الهادوي وتحقيق الوحدة اليمنية وامتداد نفوذه في اليمن نفسها وفي خارج اليمن والجزيرة العربية" [عبدالله الشماحي اليمن الإنسان والحضارة، ص: 122، 123]
لعل في الاستقراء التاريخي السريع، والعودة إليه للاستفادة، فيه ما يعين قارئ اليوم لمعرفة الأوضاع، وتوجّهات الأحداث، واختبار تجربة المجتمعات، وتعاملها مع القوى الساعية إلى السلطة.

*عن بلقيس.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
الأكثر قراءة
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر