بلال الطيب
بلال الطيب
صراع على مشارف صعدة
الساعة 06:44 صباحاً

أثناء صراعهما المَرير مع الدولة العثمانية، تحالف حاكم صبيا محمد بن علي الإدريسي والإمام يحيى حميد الدين ضد تلك الدولة العلية، وهو التحالف الذي سعى إليه الأخير، واستمر قرابة العام، وتجسد بمُحاصرة الأول لمدينة أبها، ومُحاصرة الآخر لمدينة صنعاء، وانتهى بعد كسر الحصارين، وعقد صلح دعان 8 أكتوبر 1911م.

وعن طبيعة ذلك التحالف وانفصام عُراه قال محمد الإدريسي مُخاطبًا أمين الريحاني: «عقدنا مُحالفة لمحاربة الأتراك وطردهم من اليمن، ولما جاءوا يمرون من بلادنا ليضربوه من جهة الشمال أوقفناهم، وقلنا لهم: كيف نقبل وبيننا وبينه عهد الله، وصل الأتراك بعدئذ إلى صنعاء، فهموا بضربنا من وراء، من الجبال، فلم يمنعهم ابن حميد حليفنا، صنو عهدنا، كأنَّ العهد عنده قصاصة ورق».

وكان محمد الإدريسي قد خاطب قبل ذلك قاسم بن حسين أبو طالب أحد رسل الإمام يحيى إليه قائلًا: «وإنَّ هذا الرجل - يقصد الإمام يحيى - كفرني في رسائله ومكاتيبه، وعندي منها، وصالح الأتراك، وتركني، واستعان بالترك علي».

الإمام يحيى من جهته قام بعد توقيعه صلح دعان بمُراسلة محمد الإدريسي، داعيًا إياه للدخول - مثله - في بَوتقة مُصالحة العثمانيين، إلا أنَّ حاكم صبيا استمر في حروبه التوسعية، وحقق بدعم كبير من قبل الإيطاليين انتصارات مُتسارعة على حساب الدولة العلية، وسيطر بُمساندة أسطولهم البحري على جيزان، ثم أبو عريش.

وعلى حساب البلاد الإمامية سيطرت قوات محمد الإدريسي مَسنودة بأبناء تلك المناطق على جبل العرو، وبني جُماعة، وجبل رازح إبريل 1912م، وتجاوزت خولان الشام وصولًا إلى منطقة سحار الرابضة على مشارف مدينة صعدة؛ ليتمكن عامل الإمام يحيى على تلك الجهة (محمد بن الهادي محمد) من كبح هجومها مُؤقتًا، وذلك بعد أنْ توالي وصول الدعم العثماني من أسلحة وخلافه، وكانت غنائمه من أنصار الإدريسي كثيرة.

ولتوضيح تفاصيل ذلك المشهد، أترككم مع ما قاله المُؤرخ المُتوكلي سعد بن محمد الشرقي: «وصدق على المُخالفين البوار، ولبسوا ثياب المذلة والفرار، وصار الصغار لهم دثارًا، وولوا الأدبار، وانتُهبت قرى كثيرة، وغنم المجاهدون الحقير والخطير.. ولقد كان حينئذ يدخل النفر القرية من قُرى خولان، ويقول: هاتوا بنادق الإدريسي، فما يخرج إلا بجملة منها، وانتهبت العساكر من فرَّ، ومن تأمن وقر».

ويعود عداء أبناء خولان الشام للمُتوكل يحيى بن محمد حميد الدين إلى ما قبل هذه الحوادث بثمان سنوات، فهم لم يعترفوا أصلًا بعد وفاة والده بإمامته يونيو 1904م؛ بل ناصروا إمامًا آخرًا يُدعى الهادي الحسن بن يحيى الضحياني، والأخير كان ذا طموح سياسي محدود، اكتفى بحكم المناطق التي تحت يديه، وتسمى بـ (إمام الشام)، وسمى مُنافسه بـ (إمام اليمن)، وقد عمد بعض مُؤرخي العهد المُتوكلي على تسميته بـ (المشاقق). 

لم يعادِ الضحياني العثمانيين، بل وقف بجانبهم، وساندهم أثناء حصار عساكر الإمام يحيى (كان مُعظمهم من أبناء قبيلتي حاشد وبكيل) في العام التالي لصنعاء، وتحفظ الذاكرة الشفهية زامل شعبي شهير فيه توضيح لوقوفهم مع الوالي العثماني المشير أحمد فيضي باشا أثناء فكه لذلك الحصار، نقتطف منه:
خيــــلـت بـارق قــد لـمــــع
مــــن فــــوق صــنـــــــعاء
حـــن رعـده وســـــيــــــله
وشــــل حـاشـــد والبــكــيل
يا طير يا عـازم بالــــريش
بلغ سـلامي للمشير بن فيضي
ذي عســــكره قــوم النـفـيــــر
وحنا طلبنا الله لفــك الحصار

وفي المُقابل ساند العثمانيون الإمام الضحياني في حروبه الدفاعية ضد الإمام يحيى، وهي الحرب التي صمد فيها لخمس سنوات، وحين انتصر مُنافسه بالحيلة عليه؛ تحول كثيرٌ من مُناصريه لمُناصرة محمد الإدريسي، ليس حبًا للأخير، وإنَّما كُرهًا لابن حميد الدين.

وما يجدر ذكره أيضًا أنَّ اتصالات الإيطاليين مع محمد الإدريسي كانت قد بدأت عندما كان الأخير طالبًا في القاهرة 1905م، وما أنْ عاد في العام التالي إلى صبيا مُمهدًا لتأسيس إمارته، حتى مَدته بالأموال، وكللت جهودها أواخر عام 1911م بالتحالف معه، وذلك بعد ثلاثة أعوام من توليه الحكم، وبالتزامن مع بدء الحرب الإيطالية العثمانية في طرابلس الغرب (ليبيا) التي اشتعلت قبل 15 يومًا من توقيع صلح دعان السابق ذكره، وكانت سببًا رئيسيًا في إبرامه، وهي - أي تلك الحرب - امتدت رحاها إلى سواحل اليمن الغربية، وتعرضت بسببها المدن الساحلية للقصف والحصار.

تفرَّد المُؤرخ أحمد إبراهيم الطيب في كتابه (عبرة لمن يعتبر) بنقل جانب من تفاصيل تلك المُواجهات البحرية، وقال أنَّه وفي ليلة عيد الأضحى المبارك 1329هـ (29 نوفمبر 1911م) تعرضت مدينة المخا لقصف مدفعي من قبل السفن الحربية الإيطالية المُرابطة في البحر الأحمر، وأنَّ القصف طال أيضًا منطقة الخوخة، ثم باب المندب، وأنَّ الأخيرة وقلعتها الحصينة كانت الأكثر صمودًا، استمر قصفها لأقل من ثلاثة أشهر، وذلك بالتزامن مع التوغل الإدريسي في رازح وخولان الشام السابق ذكره، فيما شاهد سكان أعالي جبل صبر من قُراهم المُعلقة - ومن ضمنهم المُؤرخ - لوامع ذلك القصف.

كما تعرضت مدينة الحديدة لقصف مدفعي هو الأعنف، وذلك بدءًا من يوم 31 أغسطس 1912م، والذي وافق بداية العشر الأواخر من رمضان 1330هـ، وعن ذلك قال ذات المُؤرخ: «ضربت المدافع على الحديدة حتى أخربوها، وأخبرني من أثق به أنَّه ضرب عليها في كل يوم ثلاثين جُله، ثمن كل جله خمسمائة ليرة ذهب، حتى خرج أهلها إلى مناخة، وإلى التحيتا، وبيت الفقيه وما ولاها». 

ما أنْ انتهت تلك الحرب بتوقيع صلح اوشي 15 أكتوبر 1912م، حتى خفت الدعم الإيطالي لمحمد لإدريسي، إلا أنَّه استطاع من خلال الأسلحة التي حصل عليها، وتكاثر أنصاره، أنْ يسيطر على حرض، ثم ميدي، وأنْ يتوغل غربًا وصولًا إلى بلاد حجور، وبلاد الشرف.    

اجتاحت قوات محمد الإدريسي حجور الشام، وتمركز بعضها في حصن الموشح (وشحة) 22 أكتوبر 1912م، والبعض الآخر تمركز في جبل القارة، وقد تمكن عساكر الإمام يحيى من استعادة السيطرة على الموقع الأخير، وعن ذلك قال المُؤرخ الشرقي: «وهنا افتشل قوم الإدريسي من قارة، وولوا الأدبار، وفرّوا على ورائهم أقبح فرار، وتبعت أثرهم الأنصار، حتى اتصلوا بحصن الموشح»، وقد استمرت المُواجهات في تلك الجهة حتى بداية العام التالي، وتجاوزت بلاد حجور إلى بلاد الشرف.    

أما في بلاد صعدة فقد تركزت المواجهات في سحار، وعن سقوط الجانب الأكبر من هذه المنطقة بيد القوات الإمامية قال المُؤرخ الشرقي مُبالغًا: «وصلت البشارات من جهة سيف الإسلام محمد بن الإمام الهادي بالاستيلاء على بقية الناكثين من سحار، وهم قرية أحماد، وآل حميدان، وأهل الطلح، والأبقور، فمنهم من أخذ وسلب، ومنهم من أسرع إلى الطاعة، وفتح البيوت للمجاهدين».

وما لم يَعترف به المُؤرخ الشرقي أنَّ القوات الموالية للإدريسي استعادت معظم تلك القرى، وأنَّ الحرب بمجملها كانت سجالًا، وأنَّ المُتضرر الأكبر منها كانوا أبناء صعدة، لا هذا الطرف أو ذاك، وكم من منازل دُمرت، وقرى نهبت، ونُفوس هُجرت؟ لتأتي وساطة الوالي العثماني محمود نديم باشا وعدد من الوجهاء والأعيان وتُوقف تلك المُواجهات مُؤقتًا مارس 1913م.

لم يكد ينتصف ذلك العام حتى اشتعلت المُواجهات في بلادي حجور وصعدة بوتيرة أشد، وقد تفرَّد المُؤرخ الشرقي بِنقل تفاصيلها برؤية أحادية غير مُكتملة، فيها كثير من المُبالغة والتناقض، وتكرر في حديثه ذكره لأسماء مناطق سيطرت عليها القوات الإمامية أكثر من مرة، دون أنْ يحدد تاريخ سقوطها بيد الجانب الآخر. 

أما المُؤرخ أحمد إبراهيم فقد نقل هو الآخر جانبًا من تفاصيل تلك المُواجهات، وبصورة مُقتضبة، وقال في معرض حديثه عن توسعات محمد الإدريسي، أنَّ قوات الأخير واصلت تقدمها إلى بلاد حاشد (ربما قصد حجور والشرف)؛ وأنَّ قوات عثمانية توجهت إلى شهارة لمُساندة الإمام يحيى في حفظ تلك المدينة المنيعة (ربما قصد توجه الوالي محمود نديم إلى تلك الجهة يوليو 1913م، أو ربما قصد تبديل مفرزة صعدة بأخرى سبتمبر 1913م).

ومما قاله المُؤرخ أحمد إبراهيم نقتطف: «تكاثرت جموع الإدريسي، ودخلت نواحي المشرق، وأطاعته حاشد وكثير من نواحيها، وتوجه بعض عساكر السلطان مع إمام المشرق لحفظ شهارة..».

وإكمالًا لهذه الجزئية، وجب التأكيد أنَّ مُناصري محمد الإدريسي لم يكونوا من مُعتنقي المذهب الشافعي فقط، فسبق أنْ استغل ذلك الأمير الطامح غضب بعض مشايخ حاشد (كالشيخ ناصر بن مبخوت الأحمر) من الإمام يحيى، وذلك بعد توقيع الأخير لصلح دعان، واستقطبهم إلى صفه.

وفي الجانب الآخر من بلاد صعدة، تركزت المُواجهات - كما أفاد المُؤرخ الشرقي - في ثلاثة محاور: محور سحار، ومحور رازح، ومحور بني جُماعة، وتوافق ذات المُؤرخ مع ما قاله المُؤرخ أحمد إبراهيم في جزئية مقتل عددًا من عساكر المفرزة العثمانية المُرابطين في منطقة الطلح التابعة لسحار نوفمبر 1913م، وذلك على يد القوات المُساندة للإدريسي.   

توالت بعد ذلك انتصارات القوات الإمامية في تلك المحاور، وتمكنت بعد سيطرتها النهائية على منطقة سحار، من السيطرة على منطقتي ضحيان ومجز من بني جماعة، ومنطقتي الأشعاف والأزوار من جبل شدا، وتمكنت - وهو الأهم - بعد عديد مُواجهات من التمركز فوق قلعة العمار من جبل رازح 24 يونيو 1914م، والأخيرة قلعة منيعة مُطلة على السهل التهامي، وقد بدأ بسقوطها التهاوي السريع لعساكر محمد الإدريسي المُرابطين في أحراش ذلك الجبل العتيد.

بعد سيطرتها على جبل رازح تفرغت القوات الإمامية لبني جُماعة، وتمكنت بعد معركة شرسة من السيطرة على الأخيرة 10 سبتمبر 1914م، بعد أنْ قامت بحركة التفافية من جهة جبل العرو، والتلال المُتصلة به، وقد أخذت تلك القوات من كبراء تلك المنطقة وغيرها رهائن الطاعة، وعاثت فيها نهبًا وخرابًا.     

لم تتوقف طيلة الأشهر الماضية المُواجهات في بلاد حجور، وهي بتفاصيلها تتشابه إلى حد كبير مع تلك التي حدثت في بلاد صعدة، مع فارق أنَّها كانت الأطول، وأنَّ ناقل تلك التفاصيل (المُؤرخ الشرقي) لم يحدد تاريخ نهايتها؛ لأنَّ تدوينه للأحداث انتهى بابتداء الحرب العالمية الأولى.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
الأكثر قراءة
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر